عندما تردد الجيولوجيون في ثلاثينيات القرن الماضي في جدوى استمرار الحفر في بئر الدمام رقم 7، كاد يغلب اليأس والظن بأن البئر جافة، ولن تنفجر بالنفط كمثيلاتها. وشكّلت الخيبة والأمل خطّين متوازيين كالأفق عند التباس اللقاء بين خطّي البحر والسماء. وكما قيل إن الحدس استدلالٌ مطويّ، فقد قادهم التنبؤ إلى إعادة اكتشاف طبقات الأرض، ورسم تصوّر جديد يمكن أن يتيح لكفة الأمل الغلبة. بالإصرار والحدس تدفق الزيت فعلاً من هذه البئر، التي عُرفت ببئر الخير، لتصبح شعلة الحياة. كما تنبأ الحالمون تمامًا بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» أن الوطن بحاجة ماسة إلى مؤسسة تنوير ثقافية غير تقليدية، ارتأى القائمون على الشأن المعرفي في أرامكو السعودية أن النهم للمعرفة والعلم لن تشبعه إلقاء بعض أمسيات عادية في مبنى عادي. بينما تعقد السعودية اليوم اتفاقيات جادة في الترفيه والثقافة والتواصل تماشيًا مع رؤية 2030، وهي تشكّل في معظمها البنود التي تنطوي عليها رسالة المركز وأهدافه، حيث يمكن القول إن حدسهم قد صدق ليتدفق النور شعلة الروح.
البعد الثقافي
تقوم السقوف، عادةً، مقام الحواجز للفضاءات الحرة، الأمر الذي لا ينبغي معه تصنيف مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء» وفق أي معايير محدودة، فاتخذ بطبيعة مبناه اللافت، وبرامجه المختلفة، وأدواره الخلاقة، انعكاس الملهم على المؤسسات الأخرى القائمة، القديم منها والجديد. لم تكن إثارة الفضول في العقول ولن تكون يومًا مهمة سهلة، إذ يرزح العالم عن بكرة أبيه أمام ثورات مجتمعية وتقنية جارفة تغيّر أساليب التلقي وتضاريس السائد على نحو ديناميكي متواصل، علاوة على الظن الخامل بموت الإبداع. من هنا كانت البداية، إذ تعمل برامج إثراء على تحويل الأنشطة الفردية إلى نشاطات جماعية من ذلك برنامج «اقرأ» الذي حوّل الهواية إلى حكاية، وتحوّل القرّاء به من مقتني كتب يكتنزون المعرفة لأنفسهم إلى إدراك أهمية دورهم في إعادة توزيع المعرفة ضمن أجواء تفاعلية حيوية.
تعرض صالة السينما الإثرائية معظم الأفلام القصيرة والطويلة التي حظيت بإقبال الجمهور السعودي في مهرجان الأفلام السعودية الذي أقيم في الدمام شرق المملكة العربية السعودية، وتحرص على تقديم الأعمال ذات الطابع الفني من أفلام عالمية غير تجارية.
يفرد مبنى البرج في إثراء كثيرًا من المساحات المخصصة لإقامة ورش العمل، والندوات، واللقاءات العلمية والثقافية، يأتي في مقدمتها مختبر الأفكار الذي يُعدّ منطقة للإبداع، وخلق الأفكار الجديدة، وتحويلها إلى نماذج ومنتجات قابلة للتسويق. كما تقود الدروب والممرات الشاسعة إلى شلالات من الضوء تحرّض الزائر على خوض تجربتين: أولاهما تبدأ من المتحف، تحديدًا من قاعة الفن السعودي المعاصر، ثم قاعة الهوية والتراث السعودي، مرورًا بالفن والحضارة الإسلامية، وانتهاءً بالتاريخ الطبيعي للجزيرة العربية، لينتقل بعدها إلى التجربة النفيسة في مكتبة إثراء، التي تُعد الأولى من نوعها في المملكة في تخصيص طابق كامل للأطفال يحتوي على الطاولة الذكية التي يوضع عليها الكتاب فتنبثق الحياة والصور الملونة من داخل الكتاب إلى سطح الطاولة، هذا إلى جانب ما يقدم من ورش عمل تفاعلية للأطفال، تركز على التعلم واكتساب المعرفة عبر الترفيه، إضافة إلى أنها توفر خدمة مرشدي القراءة المضطلعين بإرشاد الزوار عن الكتب الصادرة حديثًا، وتوجيه القراء للكتب الأبرز في مجالها والأكثر رواجًا. تدور العلاقة في مكتبة إثراء بين القارئ والكتاب والقارئ الآخر، الأمر الذي ينفرد به الطابق الثالث من خلال مقهى داخلي، ومواقع لاستضافة أندية القراءة المحلية.
البعد العمراني
من المفارقات الساحرة أن يُشيّد مركز إثراء في الموقع ذاته للبئر رقم 7، الموقع الذي شكّل تحولاً فارقًا في حياة السعوديين، والذي ينطوي على دلالات وقيم معنوية بلا شك، حيث استوحي تصميم المبنى المعدني من الصخور والتكوينات الجيولوجية القابعة في الطبيعة المحيطة. يبعث التصميم الخارجي مجسدًا في طوابق تحت الأرض تصوّرًا لماضٍ منسابًا متصالحًا باتجاه مستقبل مشرق يتجسد في مبنى البرج، يُشرع من المبنى وإليه عبر بوابات فولاذية سبع، تيمنًا ببئر 7 المجاور، وانعكاسًا لبيئة خصبة زراعيًا وتاريخيًا. تُبرز كل بوابة فنًا معماريًا يُعد تحفةً ونقطة مفصلية في تاريخ شبه الجزيرة عبر النقوش والرسومات المحفورة عليها. وهنا روعي بما لا يدع مجالاً للشك مبدأ التفاعل مع الطبيعة والتواصل الذي لا يقتصر على البشر فقط.فنوعيات النباتات والتربة، لبنات البناء الطينية، سخرت طاقتها الدفينة لخدمة الأرض الخضراء.
جرى داخليًا تصميم مبنى المكتبة في شكل بانورامي اعتمد على فكرة انعدام الضوضاء تدريجيًا، حيث تختفي الضوضاء كلما جرى الصعود نحو الأعلى ليصبح آخر طابق منطقة هادئة للدراسة والبحث. وتحتوي المكتبة على 51 عامودًا حُفر بداخلها لوحة بيضاء، نُقشت عليها أبيات 51 شاعرًا عربيًا من مختلف العصور والأزمنة، بمختلف أنواع الخط العربي. ويظهر الجانب الجمالي في التصميم عبر كسوة الجدران الداخلية للمكتبة بنحو 33 ألف قطعة من الألواح البيضاء المعدنية المثقوبة خماسية الشكل. تتداخل الألواح في نمط غير منتظم على مساحة 3 آلاف متر مربع، وهو ما يعطي شكلاً مميزًا ثلاثيَ الأبعاد لجدرانها. وتساعد الثقوب على الحفاظ على جودة الخاصية الصوتية ليعم الهدوء في أرجاء المكان. كما جرى اختيار اللون الأبيض لتأثيره الإيجابي في تركيز الباحثين على المعرفة.
في الغرفة الدمشقية سيتنفس الزائر عبق الحضارة الأموية، ورحيق عراقة التراث العربي والإسلامي، إذ أُنقذت أجزاء من هذه الغرفة من بين ركام عمليات الهدم والإزالة، وجرى تفكيكها بعناية من فناء منزل يقع في حارة الباشا في دمشق، كان قد هُدم في عام 1978 لتعبيد إحدى الطرق. ونقلت الغرفة الدمشقية بعد ذلك من سوريا إلى العاصمة بيروت، عندما اشترتها عائلة لبنانية وحفظتها لأكثر من 30 عامًا دون عرضها للجمهور، الأمر الذي ساعد على أن تبقى محتفظةً بحالتها الأصلية، حتى جرى نقلها إلى السعودية، لتُعرض للمرة الأولى في متحف مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي. الغرفة الدمشقية مؤلفة من 12 قطعة فنية تحمل الطراز الإسلامي في أشكالها، ونقشت عليها أبيات في 30 لوحة موزعة في أرجاء الغرفة بخط الثُلث من قصيدة في مدح النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، للشاعر البوصيري. كما تُعرض في الغرفة أريكة كانت تستخدم في غرف الاستقبال العربية التقليدية.
البعد الوطني
يعد الاشتغال على أصعدة عدة بشكل تناظري مستقيم يصل إلى نقاط أهدافه في إطار زمني ديدن مركز إثراء منذ أن جرى تدشينه على يدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. ومذّاك حتى اليوم، يؤمن الحالمون هنا بأن الخدمة المجتمعية لا تقل أهمية عن حجز تذكرة حضور بين مصاف الدول في العالم، فقدّم مركز إثراء برامج مثل مبادرة الحدّ الجنوبي، التي تستهدف إلهام 20 ألف شاب وشابة في كل من نجران، وجازان، وجنوب عسير، عبر تقديم سلسلة متكاملة من البرامج العلمية والإثرائية، تهدف إلى تنمية حب العلوم والمعرفة لدى الطلاب والطالبات، والمعلمين والمعلمات، ومن ذلك برامج: أتألق، إثراء لاب، ألهم، حاضنة أكتشف المعرفية.
أما على الصعيد العالمي، فقد أسس مركز إثراء لمبادرة عالمية حملت عنوان «جسور» لمد هذا النسيج الإنساني من الفنون والعلوم إلى نطاقات أوسع، والخروج بمنجز المثقف السعودي من المحلية إلى العالمية. استهدفت برامج المبادرة في مرحلتها الأولى الولايات المتحدة الأمريكية لأهمية العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين، وسوف تمتد لتشمل عددًا من الدول في مراحل مقبلة. وتتضمن برامج المبادرة معارض فنية سعودية، وسفراء الثقافة، ومهرجان الأفلام السعودية، والجولة الكوميدية، شارك فيها أكثر من 140 سعوديًا وسعودية من الفنانين، والموهوبين، والمثقفين. وأنتج إثراء مجموعة من المسرحيات والأفلام الهادفة، من أشهرها مسرحية ألف ليلة وليلتين، ومسرحية 5، وفيلم قلم المرايا، وجُود وكتاب الرمال.
بحضور مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» ضمن قائمة مجلة تايم لأفضل مئة مكان يستحق الزيارة في العالم، يُؤكد المركز أن الأزمة المعرفية التي يمر بها المراهقون والفتية في مطلع الشباب ستتلاشى بوجود مركز من هذا النوع. من هنا غدا إثراء ليس فقط مركزًا ثقافيًا يمسك بأيدي الحالمين ليحلّق بهم إلى المستقبل وحسب، لكنه يملأ فراغًا هائلاً بقي شاغرًا لمدة طويلة من الزمن، إذ إن تلبية احتياجات الفئات العمرية على اختلافها وتنوع مشاربها مسؤولية عظيمة، وتحديدًا ما يصبو إليه شباب الألفية من طموحات لا سقف لها.