حائل بكنوزها التاريخية، وعمقها الحضاري، ومخزونها التاريخي، وموروثها الزاخر، وآثارها المتناثرة على سفوحها وجبالها وسهولها، تكشف عن فنون صخرية في واجهات جبالها الحمراء والسمراء والزرقاء الجرانيتية، وتشكل مع السهول حكاية حضارة، وعشق، مكان، تناولتها كتب التاريخ الإنساني وما تدثرت به هذه المدينة القابعة بين جبلي أجا وسلمى من خصال الكرم والشهامة والشجاعة التي شهدتها هذه الأرض وإنسانها المضياف، نقلها الشعراء والرحالة، وتدفقت قرائح شعرهم من الأوائل على سفوح جبالها وسهولها يرددون جمال إنسانها وبيئتها. 

يقول الرحالة الإنجليزي، وليم بلجريف، الذي زار حائل عام 1862: "تظهر لنا جبال حائل كأنها قطعة من النقود جرى سكها حديثًا، تتلألأ بكل نقائها وبريقها، أوحت لنا حائل بشيء من المعاصرة، بل وبشيء آخر من قبيل الأناقة غير المعتادة و منازلها كانت متقاربة وقريبة من بعضها مثل شوارع بروكسل وباريس". 

ووصفها الرحالة الألماني، بوليس أوتينج، بعد أن زار حائل عام 1883 بقوله: "بعد أن تجاوزنا مرتفعًا رمليًا صغيرًا انتقلنا إلى طبيعة مختلفة، وهذه المنطقة من أفضل المناطق مناخًا، ما يجعلها أكثر مناطق شبه الجزيرة العربية خصوبة واخضرارًا. وقبل دخولنا في الممر الجبلي خيَّمنا لتناول الطعام تحت مجموعة من أشجار الطلح، ويمتد أمامنا المنظر الخصب والمواشي التي ترعى فيه والأشجار البرية وروعة الواجهة الجبلية". 

ورسمت الليدي آن بلنت، الرحالة الإنجليزية، عام 1379 لوحات مائية عن جبة ورمالها الذهبية وجبالها، وقد وصفتها بأنها من أغرب الأماكن وأجملها في العالم، وأنها واحدة من مباهج النفود، وسماؤها كثيفة الزرقة. 

جبة قفزت قبل سنوات للتراث العالمي لتسجل حكاية تاريخ جديد في الخريطة العالمية، وقف على بعض معالمه الرحالة، آنذاك، حينما تغنوا في ربوعها وجبالها وطبيعتها ونقوشها الصخرية التي تحمل رسومًا آدمية وحيوانية تحكي قصص حضارات مرت على هذه الأرض، ما حدا بلجنة التراث العالمي، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بوضع الفنون الصخرية في جبة والشويمس بمنطقة حائل ضمن قائمة التراث العالمي عام 2015. 

تُعد مدينة جبة، التي تضم نقوشًا ورسومات منتشرة بشكل كبير في جبل أم سنمان وفي الجبال القريبة منه، مكانًا سياحيًا متميزًا في الشمال الغربي لمدينة حائل، وتعود النقوش في جبة لثلاث فترات زمنية مختلفة، والمنطقة أرض لبحيرة قديمة تحيط بها كثبان النفود الكبير. 

جبل أم سمنان سجل فيه حوالي 5٫431 نقشًا ثموديًا، و1٫944 رسمًا لحيوانات مختلفة منها 1٫378 رسمًا لجمال بأحجام وأشكال مختلفة، كما بلغ عدد الرسوم الآدمية 262 رسمًا. 

العدد الهائل من هذه الأعمال يؤكد، لمن يشاهدها، أنَّ من نفذها لم يكن إنسانًا عابرًا، وإنما هو إنسان مقيم يملك من مقومات الحضارة الشيء الكثير، وقد خلّف لنا موقع جبة الذي يُعد من أكبر مواقع النقوش والرسوم الصخرية وأهمها في المملكة قاطبة. وتعد جبة متحفًا فنيًا من متاحف الشعوب القديمة، ويمكن للزائر أن يرى أعمالاً متقدمة جدًا تنم عن مهارة عالية في التنفيذ. 

ولعل أكثر ما يميز موقع جبة عن غيره من مواقع الرسومات الصخرية في المملكة، تلك الرسومات التي عرفت عند المختصين والدارسين (بنمط جبة المبكر) الذي يعتقد أنه يعود للعصر النيوليثي والمقترح له تاريخ الألف السابع قبل الوقت الحاضر، والذي ينتشر على سفوح جبل أم سنمان وواجهاته وفي الجبال القريبة منه والتي تتميز برسوم بشرية ضخمة بالحجم الكامل، تظهر أحيانًا حاملة للأقواس أو السهام أو النصال، وأحيانًا أخرى تظهر على شكل مجموعات (عائلات)، وقد أظهر الناحت على الجسد اللباس، والقلائد على الصدر، أو زين الرأس بما يشبه التاج كتلك الرسمة الفريدة والرائعة الموجودة على أحد الجبال الصغيرة المنفصلة عن جبل أم سمنان والتي توضح شخصًا طويل القامة في وضع متحرك على صدره ما يشبه القلادة وعلى رأسه ما يشبه التاج ويحمل سيفًا يقف أمام رسمة غير معروفة في وضعية توحي بمعتقد مقدس. وإلى جانب هذه الرسومات البشرية ظهرت في موقع جبة رسوم لحيوانات بالحجم الطبيعي كالأبقار ذات القرون الطويلة والتي رسمت بالحجم الطبيعي وزيَّن الناحت أجسامها بأشكال هندسية لا تقل في روعتها وجمالها عن الرسومات البشرية، حيث نفذت جميعًا بطريقة فريدة ورائعة ومن قبل فنانين محترفين وبوساطة أدوات حجرية متطورة كما يدل على ذلك دقة هذه الأشكال المنحوتة وعمقها وروعتها وجمالها. كذلك لم يغفل الناحت دور الخيول في حياته بعد استئناسها واستخدام الإنسان للعربات في حياته اليومية، حيث دوَّن الفنان ذلك على إحدى الصخور على هيئة حصانين في وضعية مقلوبة وهما يجران عربة. 

انتشرت في هذه الجبال النقوش الثمودية وبأعداد هائلة، حيث أمكن تسجيل حوالي 5٫431 نقشًا ثموديًا في جبة. أما المرحلة الأخيرة من نقوش جبة الصخرية فيمكن إرجاع تاريخها لفترة النقوش الصخرية المصاحبة لها، وهي الفترة التي تعرف باسم الفترة العربية والتي ظهرت فيها رسوم للآدميين بأنماط العصا والوعل والخيل والأشخاص راكبي الجمال. وقد بدأت تظهر في الآونة الأخيرة دلائل على وجود استيطان بشري دائم في جبة، حيث عُثر على بعض الأواني في غاية في الروعة مصنعة من الأحجار المحلية (أحجار جبل أم سمنان) ما يدعم الفكرة والاعتقاد السائد لدى أهل الاختصاص بأن جبة لم تكن مركز عبور، كما يظن بعض الناس، وإنما هي مركز حضاري قائم بذاته، ذو مقومات فكرية وحضارية خاصة به. 

x
You are looking for