لم تشرف مدينة في الكون بهجرة نبيٍّ لها، كشرف المدينة المنوّرة، بهجرة الحبيب المصطفى محمد بن عبدالله، صلّى الله عليه وسلّم، فما إنْ حلّ النبي الكريم بها، حتى انخلعت من كلِّ تاريخها السابق، الذي يذهب بعض المؤرخين إلى القول بأنه يعود إلى أكثر من 1500 سنة قبل الهجرة النبوية، لتأتي الهجرة المباركة وتسقط عنها اسم «يثرب»، وتكتب لها ميلادًا جديدًا، اكتست به شرفًا كونها أول عاصمة في تاريخ الإسلام، وثاني أقدس بقعة في الأرض بعد مكة المكرمة.
ثراء حضاري
تميزت أرض المدينة المنورة بثرائها الحضاري والثقافي، وذلك من ثراء المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والعمرانية، ومسارات طرق التجارة والحج، إذ كانت المدينة المنورة خلال الفترة الإسلامية تُعد أحد أهم المراكز التي تلتقي فيها طرق التجارة، فهناك ما يُعرف بطريق التجارة القديم إلى الشام مرورًا بالعلا ومدائن صالح، وطريق آخر يمر بمحاذاة الساحل يتجه إلى سيناء وغزة. وتتصل المدينة المنورة قبل الإسلام وبعده بطريق تجاري يربطها بالعراق والخليج العربي، إضافة إلى الطريق الذي يربطها بمكة المكرمة عبر السهول الساحلية أو المناطق الجبلية والحرار. كما لا ننسى آثارها الكثيرة من منشآت مائية، وقلاع وحصون، ومساجد، وكتابات عربية قديمة، ورسوم صخرية، وكتابات إسلامية، وغيرها من الآثار التي تركها أرباب القوافل والمقيمون على امتداد هذه الطرق. وتؤكد هذه الشواهد أن الإنسان قد عاش وتنقل في محيطها منذ القدم حتى العصر الإسلامي. إذ يضم متحف المدينة المنورة الواقع داخل محطة القطار، كثيرًا من القطع الأثرية والفنية التي تمثل مختلف العصور التي مرت بها المنطقة، ومنها الأواني الفخارية، والأدوات المنزلية، والصور الفوتوغرافية.
بؤرة إشعاع
إن تاريخ المدينة المنوّرة منذ أن هاجر إليها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته، رضي الله عنهم، أصبح هو تاريخ الإسلام. فقد أصبحت منذ ذلك الزمان بؤرة الإشعاع للرسالة، ومهوى أفئدة المحبين، إليها تشدّ الرحال شوقًا، وتقصدها القلوب محبة. وقد شهد ثراها الطاهر الأحداث العظام في تاريخ المسلمين قديمًا وحديثًا، بما هو محفوظ في ذاكرة الأضابير التاريخية.
فإذا ما قفزنا فوق الحقب التاريخية قفزًا، ونظرنا إلى واقع المدينة المنوّرة اليوم، فلن تخطئ عين الناظر إليها مقدار الجهد الكبير المبذول في إعمارها، منذ أن وحّد الملك المؤسس عبدالعزيز ابن عبدالرحمن، رحمه الله، هذه البلاد تحت راية التوحيد، وقد تعاقب أبناؤه الأبرار من بعده كلّ يدلي بدلوه، ويكشف عن محبته لمدينة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، بإعمار جديد، وتوسعة في المسجد النبوي الشريف، حتى تضاعفت سعة المسجد النبوي أكثر من مرة كمحصلة من عمليات التوسعة المستمرة في كل عهد من عهود المملكة العربية السعودية. وأصبح المسجد النبوي اليوم أهم المعالم في طيبة الطيبة، بكل حمولته من القداسة والتاريخ، يقف شامخًا بنور الهداية، متلألئًا بمآذنه العشر، وطرازه المعماري الفريد.
واحة خصبة
إذا نظرنا إلى طبوغرافية المدينة المنورة، لوجدنا أنها إجمالاً منطقة جبلية، تحيط بها الجبال من جهاتها الأربع، ومن أشهرها: جبل أحد، وجبل عير، وجبل الرماة، وجبل الراية، وجبل الجماوات، وجبل الأغوات، فضلاً عن العديد من الأودية، ومن أشهرها، وادي العقيق، ووادي الروحاء، ووادي بطحان.
لطالما كانت المدينة المنورة واحة خصبة بفضل وفرة المياه والأودية التي تجري إليها من جهاتها المختلفة، إذ تنتشر العيون والمياه والآبار في هذه الأودية التي تروى منها البساتين والمزارع، فضلاً عن تربتها ذات الرواسب البركانية من حرار المنطقة ورواسبها التي جرفتها السيول، فكانت لهذه الطبيعة الأثر الكبير في جذب التجمعات البشرية التي شكلت المدينة في عهودها القديمة.
اشتهرت المدينة المنورة بزراعة النخيل ومحصوله المتميز الذي كان مطلبًا لأهل مكة وغيرها ممن يسافرون إلى المدينة لشراء احتياجاتهم في مختلف المواسم، وظل تمر المدينة مطلبًا لكل زوارها حتى الوقت الحاضر، إلى جانب بساتين الخضراوات والفاكهة. ظل النشاط الزراعي في المدينة المنورة في مراحل مد وجزر على امتداد تاريخها، حتى واكبت الزراعة في المدينة المنورة في العهد الحديث من التطور الذي شهدته الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فتمددت المساحات الزراعية بعيدًا عن العمران الذي أتى على جزء من المزارع القديمة بحكم الزحف الحضري في العقود الأخيرة، الذي لم يعوضه إلا التوسع الزراعي شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا بفضل السياسات الحكومية التي دعمت هذا التوسع حتى ظهر كثير من المزارع للخضراوات، والفاكهة، والتمور المعروفة بأنواعها المتميزة من العجوة، والعنبر، والشلبي، وغيرها.
مساجد المدينة
في المدينة المنوّرة مساجد عتيقة، أخذت صيتها وشرفها من إنشاء سيدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لها، ومنها مسجد قباء، الذي كان أول مسجد بُني في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ويبعد عن المسجد النبوي الشريف بنحو 5 كيلو مترات. وقد شهد هذا المسجد في العهد السعودي العديد من التوسعات والعناية المعمارية به، وبلغت مساحته 5035 مترًا مربعًا بعد أن كانت 1600 متر مربع، فإذا ما أضيفت إليها الملاحقات الأخرى تصبح المساحة الإجمالية له 13500 متر مربع. ومن المساجد التاريخية أيضًا في المدينة المنوّرة، والتي يقصدها الحجاج والمعتمرون والزوار للصلاة فيها لفضل صلاة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بها، مسجد القبلتين، الذي يقع جنوب غربي بئر رومة من جهة وادي العقيق، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 5 أميال في الاتجاه الشمالي الغربي. ويرتبط هذا المسجد بتحويل القبلة إلى مكة المكرمة بعد أن كانت إلى بيت المقدس. وهناك أيضًا المساجد السبعة، التي يحرص على زيارتها القادمون إلى المدينة المنورة، وتتألف من مجموعة مساجد صغيرة تقع في الجهة الغربية من جبل سلع عند جزء من الخندق الذي حفره المسلمون للدفاع عن المدينة في عهد النبوة، أكبرها مسجد الفتح. ومن هذه المساجد مسجد سلمان الفارسي، ومسجد أبي بكر الصديق، ومسجد عمر بن الخطاب، ومسجد علي بن أبي طالب، ومسجد فاطمة الزهراء، وعدد المساجد ستة، ولكنهم اشتهروا بهذا الاسم لأن الزائرين لهم يزورون مسجد القبلتين معهم في الرحلة نفسها، لذلك اشتهروا بالمساجد السبعة. كما تضم المدينة المنوّرة مساجد أخرى تاريخية وعتيقة.
البقيع.. وأُحد
من معالم المدينة المنوّرة الشهيرة بقيع الغرقد، الذي يعد المقبرة الرئيسة في المدينة المنوّرة، ويضم ثراه أغلب آل بيت النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وغالب صحابته الكرام، رضوان الله عليهم. وما زال ثرى البقيع يستقبل الراحلين إلى الدارة الآخرة. وعلى بعد 5 كيلو مترات يتشامخ جبل أحد الذي شهد سفحه المعركة الشهيرة، والتي عرفت باسم الجبل نفسه، وهناك استشهد سيدنا حمزة بن عبدالمطلب، عم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وثلة من الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، وضمه ثرى أحد، في مقبرة مسوّرة هناك.
مشاريع تنموية
تستمر مسيرة النهضة التي تشهدها المدينة المنوّرة اليوم عبر العديد من المشاريع العمرانية والتنموية المهمة، التي أكسبتها رونقًا وبهاء على بهائها وقدسيتها، وتقف الحدائق العامة العديدة، ودور السكن المريحة والميسرة، وغيرها من الخدمات الأخرى، شاهدًا على سعي المسؤولين على راحة القادمين إليها من المسلمين، خصوصًا في مواسم العمرة والحج، حيث تفتح المدينة المنوّرة ذراعيها مرحبة بزوارها القادمين إليها في فنادقها العصرية لضيافة زوار مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.